الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِسُنَنِهِ {سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [33: 62].وَالتَّبْدِيلُ التَّغْيِيرُ بِالْبَدَلِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي نَصْرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَخُذْلَانِ أَعْدَائِكَ قَدْ تَمَّتْ وَأَصْبَحَ نُفُوذُهَا حَتْمًا لَا مَرَدَّ لَهُ؛ لِأَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْرَادِهَا لَا مُبَدِّلَ لَهَا؛ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ- وَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مِنْ خَلْقِهِ- أَنْ يُزِيلَ كَلِمَةً مِنْ كَلِمَاتِهِ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى تُخَالِفُهَا، أَوْ يَمْنَعَ صِدْقَهَا عَلَى مَنْ وَرَدَتْ فِيهِمْ، كَأَنْ يَجْعَلَ الْوَعْدَ وَعِيدًا أَوِ الْوَعِيدَ وَعْدًا أَوْ يَصْرِفَهُمَا عَنِ الْمَوْعُودِ بِالثَّوَابِ أَوِ الْمُوْعَدِ بِالْعِقَابِ إِلَى غَيْرِهِمَا أَوْ يَحُولَ دُونَ وُقُوعِهِمَا أَلْبَتَةَ.فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَّزَ تَخَلُّفَ الْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ لِأَنَّهُ فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ، قُلْنَا: لَمْ يُجَوِّزْ أَحَدٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَهْلِ الْحَقِّ تَخَلُّفَ الْوَعِيدِ مُطْلَقًا، بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِي الْكُفَّارِ وَفِي طَائِفَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا قِيلَ: يَتَخَلَّفُ شُمُولُ الْوَعِيدِ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ بَعْضِ النُّصُوصِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَخَلُّفٍ فَيُقَالُ: إِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِكَلِمَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَكْذِيبٌ لَهَا، فَإِنَّهُ تعالى لَمْ يُرِدْ بِتِلْكَ الْإِطْلَاقَاتِ الشُّمُولَ الْعَامَّ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ مَنْ وَرَدَتْ فِيهِمْ تِلْكَ النُّصُوصُ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مُقْتَرِفِيهَا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ وَمَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَا يُبَدِّلُ كَلَامَهُ فِي أَحَدٍ مِنْهُمَا، وَأُبْهِمَ ذَلِكَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَهُ دَائِمًا وَلَا يُوقِعُنَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي الْغُرُورِ وَالْأَمْنِ مِنْ عَذَابِهِ فَنُقَصِّرُ، وَنَخَافُهُ دَائِمًا وَلَا يُوقِعُنَا ارْتِكَابُ الذَّنْبِ فِي الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَتِهِ فَنَهْلَكُ، وَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَ وَنَخَافَ فَأَمِّنْ خَوْفَنَا وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا.فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الشُّفَعَاءُ يُؤَثِّرُونَ فِي إِرَادَتِهِ تَعَالَى فَيَحْمِلُونَهُ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُمْ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ؟ قُلْنَا: كَلَّا إِنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ الْأَزَلِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَاتُ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ لَا يَأْذَنُ إِلَّا لِمَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ وَعِلْمُهُ فِي الْأَزَلِ بِالْإِذْنِ لَهُمْ {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [21: 28] فَيَكُونُ ذَلِكَ إِظْهَارَ كَرَامَةٍ وَجَاهٍ لَهُمْ عِنْدَهُ، لَا إِحْدَاثَ تَأْثِيرٍ لِلْحَادِثِ فِي صِفَاتِ الْقَدِيمِ وَسُلْطَانٍ لَهُ عَلَيْهَا، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا.فَإِنْ قِيلَ: أَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّحْرِيفِ أَوِ التَّبْدِيلِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَيْ فِي لَفْظِهَا وَعِبَارَتِهَا، كَاسْتِحَالَةِ التَّبْدِيلِ فِي صِدْقِهَا وَنُفُوذِهَا؟ قُلْنَا: إِنَّمَا وَرَدَ السِّيَاقُ وَالنَّصُّ فِي صِدْقِهَا وَعَدْلِهَا فِي لَفْظِهَا، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيفَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا لِكَلَامِهِ وَنِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِنْهُ، وَمَا كَفَلَ تَعَالَى حِفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ بِنَصِّهِ إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [15: 9] وَظَهَرَ صِدْقُ كَفَالَتِهِ بِتَسْخِيرِ الْأُلُوفِ الْكَثِيرَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ لِحِفْظِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَلِكِتَابَةِ النُّسَخِ الَّتِي لَا تُحْصَى مِنْهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ- رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ- إِلَى هَذَا الْعَصْرِ، وَنَاهِيكَ بِمَا طُبِعَ مِنْ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ نُسَخِهِ فِي عَهْدِ وُجُودِ الطِّبَاعَةِ بِمُنْتَهَى الدِّقَّةِ وَالتَّصْحِيحِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُ ذَلِكَ لِكِتَابٍ إِلَهِيٍّ وَلَا غَيْرِ إِلَهِيٍّ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَحْفَظُوا كُتُبَ رُسُلِهِمْ فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي السُّطُورِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.وَقَدْ خُتِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لِأَنَّهُ تَذْيِيلٌ لِلسِّيَاقِ الْأَخِيرِ كُلِّهِ لَا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَطْ، وَهُوَ سِيَاقُ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ، وَفِيهِ ذِكْرُ اقْتِرَاحِهِمْ وَأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، وَذِكْرُ سَائِرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَخِدَاعِهِمْ لِلنَّاسِ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ، وَصَغْيِ قُلُوبِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ إِلَيْهِ وَضَلَالِهِمْ بِهِ، فَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ الْخَادِعَةِ مِنْهُمْ، عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الصَّغْيِ وَالْمَيْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، وَبِمَا يَقْتَرِفُونَ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِكُفْرِهِمْ وَغُرُورِهِمْ.{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}هَذِهِ الْآيَاتُ سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي بَيَانِ ضَلَالِ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي عَهْدِ بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَغَلَبَةِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فِي أَثَرِ بَيَانِ ضَلَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَإِقَامَةِ حُجَجِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، وَوَصَلَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ الشِّرْكِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الذَّبَائِحِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا قَبْلَهَا وَحْيَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِي يُلْقُونَهُ لِغُرُورِ النَّاسِ بِهِ، وَصَغْيِ قُلُوبِ مُنْكِرِي الْآخِرَةِ لَهُ وَافْتِتَانِهِمْ بِهِ، وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ هِدَايَةِ وَحْيِ اللهِ الْمُفَصِّلِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صَلَاحُ دُنْيَاهُمْ، فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ: لَا تَبْتَغِ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ حَكَمًا غَيْرَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، فَهَذَا الْكِتَابُ هُوَ الْهِدَايَةُ التَّامَّةُ الْكَامِلَةُ، فَادْعُ إِلَيْهِ النَّاسَ كَافَّةً، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ مُتَّبِعُونَ لِوَحْيِ الشَّيْطَانِ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إِلَّا الظَّنَّ الَّذِي تُرَجِّحُهُ لَهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَمَا هُمْ فِيهَا إِلَّا يَخْرُصُونَ خَرْصًا فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَخْرُصُ أَهْلُ الْحَرْثِ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَغَيْرَهَا وَيُقَدِّرُونَ مَا تَأْتِي بِهِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَلَا شَيْءَ مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ وَلَا ثَابِتٍ بِدَلَائِلَ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ.وَهَذَا الْحُكْمُ الْقَطْعِيُّ بِضَلَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ بِمَا بَيَّنَهُ بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ- وَلاسيما فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ- تُؤَيِّدُهُ تَوَارِيخُ الْأُمَمِ كُلِّهَا، فَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا قَدْ تَرَكُوا هِدَايَةَ أَنْبِيَائِهِمْ وَضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا، وَكَذَلِكَ أُمَمُ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَبْعَدَ عَهْدًا عَنْ هِدَايَةِ رُسُلِهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ شُئُونِ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِ الْعَرَبِ خَاصَّةً.{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أَيْ إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي رَبَّاكَ وَعَلَّمَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، وَبَيَّنَ لَكَ فِيهِ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنَ الْحَقِّ وَمِنْ شُئُونِ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَمِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ بِمَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ الْقَوِيمِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ السَّالِكِينَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ، إِذِ الضَّلَالُ مَا يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَيُبْعِدُ السَّالِكَ عَنْهُ، وَالِاهْتِدَاءُ مَا يَجْذِبُهُ إِلَيْهِ وَيُقَرِّبُهُ مِنْهُ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَصْدَقَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حِسِّهِ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ اضْطَرَبُوا فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ} لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ الشَّائِعِ مِنِ اقْتِرَانِ مَعْمُولِ اسْمِ التَّفْضِيلِ بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ تعالى فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْقَلَمِ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [68: 7].فَكَانَ أَبْعَدُ إِعْرَابِهِمْ لَهُ عَنِ التَّكَلُّفِ أَنَّ الْبَاءَ حُذِفَتْ مِنْهُ اكْتِفَاءً بِاقْتِرَانِهَا بِمُقَابِلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وَمُخَالَفَةُ الْمَعْهُودِ فِي أَسَالِيبِ اللُّغَةِ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ أَهْلِهَا إِلَّا لِنُكْتَةٍ يَقْصِدُونَهَا بِهِ، وَكَلَامُ رَبِّ الْبُلَغَاءِ وَمُنْطِقِهِمْ بِاللُّغَاتِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَالنُّكَتُ مِنْهَا لَفْظِيٌّ كَالِاخْتِصَارِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْأُسْلُوبِ، وَمِنْهَا مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ نُكَتِ مُخَالَفَةِ الْمَعْهُودِ الْكَثِيرِ تَنْبِيهُ الذِّهْنِ الْمُتَأَمِّلِ، كَمَنْ يُرِيدُ إِيقَافَ سَالِكِ الطَّرِيقِ فِي مَكَانٍ مِنْهُ لِفَائِدَةٍ لَهُ فِي الْوُقُوفِ، كَمَا أَرَى اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُوسَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ بِجَانِبِ الطُّورِ فَحَمَلَ أَهْلَهُ عَلَى الْمُكْثِ فِيهِ لِمَا عَلِمْنَا مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا النَّوْعَ مِنَ النُّكَتِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلْنَا مِنْهُ عَطْفَ الْمَرْفُوعِ عَلَى الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} [5: 69] أَيْ وَكَذَا الصَّابِئُونَ أَوْ وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ، خَصَّ هَؤُلَاءِ بِإِخْرَاجِهِمْ عَنْ نَسَقِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْإِعْرَابِ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ بَقَايَا أَهْلِ كِتَابٍ وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} لِلتَّنْبِيهِ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي كَوْنِ اللهِ تَعَالَى أَعْلَمَ بِأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ هُنَا بِالذَّاتِ بِدَلِيلِ سَابِقِ الْكَلَامِ وَلَاحِقِهِ إِذْ هُوَ فِيهِمْ، وَمَا ذَكَرَ الْعِلْمَ بِالْمُهْتَدِينَ إِلَّا لِأَجْلِ التَّكْمِلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ؛ وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ، فَتَأَمَّلْ. وَلَوْ جَازَتِ الْإِضَافَةُ هُنَا نَحْوُ أَفْضَلُ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ. لَكَانَ الْكَلَامُ احْتِبَاكًا تَقْدِيرُهُ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ وَمَنْ يَهْتَدِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَبِالْمُهْتَدِينَ، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَلَيْسَ الْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ الْإِضَافَةِ هُنَا كَوْنَ صِلَةِ مَنْ فِعْلًا مُضَارِعًا لَا مَاضِيًا كَالْمِثَالِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ وَنَظَائِرَهُ، بَلِ الْمَانِعُ هُوَ أَنَّ الْمُضَافَ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا جِنْسَ لَهُ، وَلَوِ اقْتَرَنَ الْمَوْصُولُ هُوَ بِالْجَارِ فَقِيلَ: هُوَ أَعْلَمُ مِمَّنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ، لَجَزَمْنَا بِالِاحْتِبَاكِ. اهـ.
وقوله: [الكامل] الثاني: أنَّها في محلِّ نَصْب على إسْقاط الخَافِض؛ كقوله: [الوافر] قاله أبُو الفَتْح.وهو مَردُودٌ من وجهين:الأول أن ذلك لا يطَّرِد.الثاني: أن أفْعَل التَّفْضِيل لا تَنْصِبُ بِنَفْسِها؛ لضَعْفها.الثالث: وهو قَوْل الكُوفيين- أنّه نصب بنفس أفْعَل، فإنها عندهم تَعْمل عمل الفِعْل.الرابع: أنها مَنْصُوبة بِفعل مُقَدَّر يدل عليه أفْعَل، قاله الفَارسيُّ؛ وعلي خَرَّج قول الشاعر: [الطويل] ف القوانِس نُصِب بإضمار فعلٍ، أي: يَضْرِبُ القَوانِسَ؛ لأن أفَعَل ضَعِيفة كما تقرَّر.الخامس: أنَّها مَرْفُوعة المحلِّ بالابْتِداء، ويَضِل: خَبَره، والجُمْلَة مُعَلِّقة لأفْعَل التَّفْضِيل؛ فهي محلِّ نَصْب بها؛ كأنه قيل: أعلم أيُّ النَّاسِ يَضِل كقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12]، وهذا رأي الكسائِي، والزَّجَّاج، والمُبَرِّد، ومَكّي، وإلا أن أبا حيَّان ردَّ هذا؛ بان التَّعْلِيق فرع ثُبُوت العمل في المَفْعُول به، وأفْعَل لا يَعْمل فيه، فلا يُعَلَّق.والرَّاجِح من هذه الأقْوَال: نَصْبُها بمضمر، وهو قول الفَارسيِّ، وقواعد البصريين مُوافِقَةٌ لَه، ولا يَجُوز ان تكون مَنْ في محلِّ جرِّ بإضافة أفْعل إليْها؛ لئلًا يلزم مَحْذُور عَظِيم، وذلك أنَّ أفعل التَّفْضِيل لا تُضَاف إلاَّ إلى جنْسِها، فإذا قُلْتَ: زَيْد أعْلَم الضَّالِّين لَزِم أن يكون زَيْد بَعْض الضَّالِّين، أي: مُتَّصِفٌ بالضَّلال، فهذا الوَجْه مُسْتَحيل في الآية الكريمة، وهذا عند من قرأ {يَضِلُّ} يفتح حَرْف المُضارعة، أمَّا من قرأ بضمِّه: {يُضِلّ}- وهو الحسن، وأحمد بن أبي سُرَيْج-، فقال أبُو البقاءِ: يجُوز أن تكون {مَنْ} في موضع جرِّ بإضافة أفعل إليها.قال: إمَّا على مَعْنَى: هو أعْلَم المُضِلِّين، أي: من يجد الضَّلال وهو من أضْلَلْتُه، أي: وَجَدْته ضالًا؛ مثل أحْدَتُه، أي: وَجَدته مَحْمُودًا، أو بِمَعْنى: أنه يَضِلُّ عن الهدى.قال شهاب الدِّين: ولا حَاجَة إلى ارْتِكَاب مِثْل الأمَاكن الحَرِجة، وكان قد عبَّر قَبْل ذلك بِعِبَارات اسْتَعْظَمتُ النُّطْق بها، فَضَربْت عَنْها إلى أمْثِلةٍ من قوْلي، والَّذِي تُحْملُ عليه هذه القراءة، ما تقدّضم من المُخْتَار؛ وهو النَّصْب بِمُضْمَر، وفاعل {يُضِلّ} على هذه القراءة: ضمير يَعُود على اللَّه تعالى على مَعْنَى: يَجِدُه ضالًا، أو يَخْلُق فيه الضَّلال {لا يسأل عمَّا يَفْعَل} ويجُوز أن يكُون ضمير {مَنْ} أيْ: أعْلَم مَنْ يضِلُّ النَّاس، والمَفْعُول مَحْذُوف، وأمَّا على القراءة الشَّهيرة، فالفَاعِل ضمير مَنْ فقط، ومَنْ يجُوز أن تكُن موصُولة، وهو الظَّاهر، وأن تكون نَكِرة مَوْصُوفة، ذكره أبو البقاء. اهـ.
|